ماذا بعد انسحاب الاحتلال من جنين؟

في تحول لافت في المشهد الأمني في شمال الضفة الغربية، أعلن كمال أبو الرب، محافظ جنين، استعداد قوات الأمن الفلسطينية لتوسيع نطاق سيطرتها على مخيم جنين، وفرض سيادة القانون فور انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من المخيم.
وإذا حللنا هذه التصريحات، نجدها لا تروي لقيادات في حركة حماس وأعضاء من سرايا جنين، التي أبدت مواقف متباينة بشأن مستقبل المخيم وترتيباته الأمنية، وهو ما أعاد إلى الواجهة جدلا قديما حول من يملك القرار الأمني في واحدة من أكثر المناطق توترًا في الضفة، ولا ننسى أن المخيم كان في السنوات الأخيرة مركزًا للاشتباكات المسلحة، وتحول إلى رمز للمقاومة في الضفة ما جعل أي تغيير في بنيته الأمنية محل مراقبة واهتمام من الشارع الفلسطيني ومن قوى إقليمية.
ربما في الوقت الحالي، لا تنوي السلطة الفلسطينية السماح عودة الوضع الذي كان قائمًا خلال الأشهر الماضية، حين سيطرت تشكيلات مسلحة من سرايا جنين على المخيم بشكل شبه كامل، خاصة وأن هذت الوضع تسبب في خلق فراغ أمني استغلته إسرائيل لشن اقتحامات متكررة، أسفرت عن دمار واسع في البنية التحتية وخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات وترويع دائم للسكان.
لذلك يبدو أن فرض سيادة القانون هو خطوة ضرورية لاستعادة الحياة الطبيعية داخل المخيم، ولمنع تكرار مشاهد الفوضى التي جعلت المخيم ساحة دائمة للمواجهة والعنف، خاصة في الوقت الذي تسعى فيه السلطة لاستعادة ثقة السكان المحليين، عبر تفعيل الأجهزة المدنية والخدمية إلى جانب الترتيبات الأمنية لضمان أمن واستقرار مستدامَين.
أيضا، قد تكون خطة إعادة الانتشار في المخيم تتضمن تنسيقًا ميدانيًا محكمًا لتفادي أي فراغ قد تستغله جهات مسلحة أو تنظيمات خارجة عن القانون، ورغم أن بعض فصائل المقاومة عبّرت عن قلقها من خطوات السلطة، خاصة في ظل غياب ضمانات إسرائيلية بوقف الاقتحامات، إلا أن أطرافًا داخل المخيم بدأت ترحب بتحرك رسمي فلسطيني يعيد الأمور إلى نصابها.
وفي الوقت ذاته، تسعى شخصيات وطنية داخل جنين إلى التوسط بين الفصائل والسلطة لتفادي الصدام والدفع نحو تفاهم مشترك يوازن بين متطلبات الأمن وحق السكان في الدفاع عن أنفسهم.
وفي ظل هذه الظروف، فربما يعتمد نجاح السلطة في استعادة السيطرة على المخيم إلى حد كبير على التزام الاحتلال بعدم التدخل، وعلى قدرة السلطة على تقديم نموذج أمني يحظى بقبول شعبي، بحيث لا يستند فقط إلى القبضة الأمنية بل إلى خدمات وحضور فعلي على الأرض.
ومع تواتر التصريحات الرسمية، تبقى الأنظار معلقة بما ستسفر عنه الأيام المقبلة، وما إذا كانت الخطة الأمنية ستنجح في إعادة المخيم إلى حضن الشرعية الفلسطينية دون أن تنزلق إلى مواجهة جديدة مع فصائل المقاومة أو السكان الغاضبين.
وبالإضافة إلى الجانب الأمني، فنجد أن السلطة الفلسطينية حريصة على إعداد خطة شاملة لإعادة تأهيل المخيم، بحيث تتضمن إصلاح البنية التحتية التي تضررت بشدة نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، في خطوة تهدف إلى إعادة الحياة إلى طبيعتها تدريجيًا، لذلك من المهم أن تكون الخطوة الأمنية جزءًا من رؤية سياسية أوسع، تتضمن إنهاء الانقسام الفلسطيني، وإعادة بناء مؤسسات تمثيلية قوية تعكس تطلعات الجيل الجديد داخل المخيمات، بعيدًا عن الاستقطاب والصراع بين الفصائل.
وبالتأكيد، لا يمكن عزل مستقبل مخيم جنين عن المشهد الفلسطيني العام، خاصة في ظل انسداد الأفق السياسي، ما يجعل من المخيم ساحة اختبار حقيقية لمدى قدرة السلطة على استعادة زمام الأمور دون الانزلاق إلى مواجهات داخلية، فمخيم جنين لم يعد فقط قضية أمنية، بل بات معبّرًا عن أزمة أوسع تتعلق بمفهوم الشرعية والتمثيل السياسي في الأراضي الفلسطينية.
كما أن أي نجاح في إعادة الاستقرار إلى المخيم يجب أن يُبنى على شراكة فعلية مع سكانه، لا على فرض الأمر الواقع، وهذا يتطلب فتح قنوات حوار مباشرة مع الفصائل والشباب داخل المخيم، والاستماع إلى هواجسهم ومطالبهم، بدلًا من الاكتفاء بالحلول الأمنية التي أثبتت محدوديتها مرارًا، فجنين في النهاية، ليست مجرد مخيم… بل بوصلة سياسية لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الضفة الغربية بأكملها.
مسك محمد