
مرّت الأيام والأسابيع، وتعاقبت الشهور، حتى بلغنا اليوم الـ655 من الحرب المتواصلة على قطاع غزة، دون أن يختلف يومٌ واحد عن سابقه. كأن الزمن توقّف، أو كأننا عالقون داخل كابوس لا نهاية له. مشهد متكرّر لوحش منفلت، يخرج من عتمته ليلتهم الأخضر واليابس، ويدكّ البيوت والمزارع، ويسحق الأرواح بلا رحمة في كل زاوية من هذا القطاع المحاصر.
في هذا الزمن الثقيل، لم نعد نعرف كيف تمضي الأيام، لكننا نعرف يقينًا أن كل صباح يحمل مأساة جديدة. عائلات بأكملها في دير البلح، وخان يونس، والنصيرات، والنغّازي، ومدينة غزة طُمست تحت الأنقاض. طائرات الموت تحلّق بلا كلل، وتُلقي بحممها على المنازل، فتنتهي الحياة في لحظة. بعض الضحايا أُتيح لنا وداعهم، وآخرون ما زالوا تحت الركام، بلا أسماء ولا قبور.
آلة الحرب لا تتوقف، بل تتسارع، تدكّ كل ما هو قائم، من شمال القطاع إلى جنوبه. حتى الأحياء الجنوبية، التي اعتقد البعض أنها قد تكون أكثر أمانًا، لم يبقَ فيها جدارٌ يُستند إليه أو سقف يضمّ حلمًا صغيرًا.
لم أكن أتخيّل أن الفقد يمكن أن يكون بهذه القسوة. لم أعرفه على حقيقته إلا حين استُشهد ابنا جارتي، اللذان كنت أراهما يوميًا، أسمع ضحكاتهما، وأراقب نموّهما كما لو كانا من أفراد عائلتي. قذيفة واحدة كانت كفيلة بمحو طفولتهما، ومستقبلَين واعدين، وأحلام أمّ وأبٍ بأن يريا ثمرة كفاحهما تكبر أمام أعينهما. لجأت العائلة إلى الجنوب هربًا من الموت، فلاقوه هناك، في زاويةٍ غريبة من أرضٍ منفية.
لقد مرّت 655 يومًا، لكن الحزن ما زال طازجًا، يعشش في القلوب والعيون والبيوت. أمّهات وآباء فُجعوا بأطفالهم، وأطفالٌ استيقظوا على عالم لا يعرفون فيه أحدًا من عائلاتهم. أكثر من 70 ألف شهيد، وعشرات الآلاف من الجرحى، وآلاف البيوت المدمّرة، وملايين الذكريات التي طُمرت تحت الركام. وفوق ذلك، يعيش أكثر من مليونين ومئتي ألف إنسان في حالة من التشرد القاسي، لا يعرفون سقفًا ولا مأوى ولا طمأنينة.
لم يعد الناس يبحثون عن الرفاهية. جلّ ما يرجونه الآن هو لقمة خبز، خيمة صغيرة تقيهم حرّ الصيف، أو قطعة صابون تنظّف وجوههم من أثر الدخان والتراب. الكرامة أصبحت تُستجدى، والاحتياجات الأساسية تحوّلت إلى أحلام، بينما يتسلّل اليأس إلى القلوب، ويغدو الموت أمنيةً بالنسبة للكثيرين ممن فقدوا كل شيء.
وها هي الحرب مستمرة، والإبادة في تصاعد، دون أي أفق للنجاة. قادة الاحتلال لا يُخفون تعطّشهم للمزيد من الدم، ويواصلون تهديداتهم بتوسيع رقعة العدوان لتشمل الضفة الغربية ولبنان. وفي المقابل، يقف العالم – أو من يُفترض أن يكون صوت العدالة فيه – صامتًا، بل منحازًا؛ يبرّر القتل، ويدعم الجريمة، بذريعة “حق الدفاع عن النفس”.
ومع كل هذا، لا تزال شعلة الأمل متّقدة في القلوب. فالشعب الذي صمد 655 يومًا في وجه آلة الفناء، لا يزال يؤمن أن الفجر قادم، وأن النصر ممكن، وأن هذه الأرض لن تنكسر. قد تتعب الأجساد، وقد تتشظّى الأرواح، لكن الإيمان بالحق والحرية لا يموت.
فالظلم لا يدوم، ومن سار على درب النور، وإن تعثّر، لا بد أن يصل.