
في تطور أمني خطير يعكس تعقيدات المشهد الداخلي الفلسطيني، أعلنت قوات الأمن الوقائي في مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، عن إحباط مخطط إرهابي كان سيُحدث كارثة إنسانية حقيقية، بعد القبض على خلية تنتمي إلى تنظيم “داعش”، وضبط كمية كبيرة من العبوات الناسفة كانت بحوزتهم.
أظهرت التحقيقات الأولية أن هذه المتفجرات لم تكن موجهة نحو الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل كان بعضها معدًا لاستهداف فلسطينيين، ممن يعتبرهم التنظيم “كفارًا”، في توجه يعبّر عن خطورة انتشار الفكر التكفيري داخل المجتمع الفلسطيني نفسه.
ربما يسلط هذا الكشف، وإن كان يُحسب للأجهزة الأمنية، الضوء على تحدٍ أمني من نوع مختلف، فالتعامل مع مجموعات متشددة لا تؤمن بالشراكة الوطنية أو بالهوية الفلسطينية الجامعة، بل تسعى لفرض مشروعها العابر للحدود عبر العنف، يتطلب أكثر من مجرد القبض على خلية أو ضبط عبوات.
ربما أيضا كانت الخلية على وشك تنفيذ عمليات وشيكة، وربما كان اعتقالهم المبكر هو ما حال دون وقوع كارثة، الأمر الذي يعيد طرح السؤال الأهم وهو: إلى أي مدى تغلغلت هذه الأفكار داخل مناطق السلطة، وما مدى جاهزية الأجهزة للتعامل مع هذا النوع من التهديدات المستجدة؟
لا شك أن المجتمع الفلسطيني يمر بواحدة من أدق مراحله، ليس فقط نتيجة الاحتلال وممارساته، بل أيضًا بسبب الفراغ السياسي والانقسامات الداخلية، وهي بيئة لطالما استغلها المتطرفون لتوسيع نفوذهم، وإذا كانت جنين تعاني من تحدي ضبط السلاح وتعدد مراكز القوة، فإن ما حدث في نابلس يفتح بابًا للقلق من تغلغل عقيدة أكثر راديكالية وخطورة.
والواقع يقول إن تنظيمات مثل “داعش” لا تسعى فقط لنشر الفوضى، بل تستهدف ضرب النسيج الاجتماعي والسياسي من الداخل، وهو ما يجعل مواجهتها لا تقتصر على العمليات الأمنية، بل تتطلب أيضًا خطة متكاملة تشمل التعليم والإعلام، والخطاب الديني ومشاركة مجتمعية واعية تكشف خطورة هذا الفكر على مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، لذلك فإن موقف الشارع الفلسطيني من هذه التنظيمات ما زال رافضًا على نطاق واسع، لكن هذا لا يعني غياب بيئات حاضنة محتملة خاصة في ظل تراجع الأمل، واستمرار الاحتلال، وتآكل الثقة بالمؤسسات السياسية، وهو ما يمنح هذه التيارات المتشددة فرصة للتسلل من الهامش إلى المتن.
أيضا، قد يضع هذا الحدث السلطة الفلسطينية أمام تحدٍ مزدوج: من جهة ضرورة تعزيز كفاءة الأجهزة الأمنية في مكافحة التطرف، ومن جهة أخرى التأكيد أن هذه الجهود لا تتحول إلى ذريعة لقمع الحريات أو تجاهل القضايا الوطنية الكبرى بما فيها مقاومة الاحتلال.
والمفارقة المؤلمة أن عناصر هذه الخلية لم يأتوا من خارج المجتمع، بل هم فلسطينيون عاشوا داخل المدن والمخيمات، وتشربوا خطاب الكراهية والتكفير على مدى سنوات ما يطرح تساؤلات حول دور وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المنابر المتطرفة في نشر فكر داعش بين الشباب، مستغلة شعورهم بالتهميش وفقدان الأمل في مستقبل أفضل.
لكن الانكشاف الأمني ليس مستبعدًا، فرغم نجاح الأمن الوقائي في هذه العملية، إلا أن المخاوف ما زالت قائمة من وجود خلايا نائمة أو أفراد آخرين يحملون الفكر ذاته ولم يُكشف أمرهم بعد.
وهنا يأتي الدور الشعبي الذي لا يقل أهمية عن الدور الحكومي، لأن ببساطة التصدي لهذا التهديد لا يمكن أن يتم بالأمن فقط، فالمطلوب الآن هو خلق وعي جماهيري بخطورة هذا الفكر، وفتح حوارات داخل المخيمات والجامعات والمساجد، لأن المعركة في جوهرها معركة وعي وانتماء، فيجب استعادة ثقة الناس في مشروع وطني جامع يقطع الطريق أمام كل مشروع بديل يُحاول استغلال ضعف الحال الفلسطيني لزرع بذور الفوضى والتطرف.
وفي النهاية، فإن القبض على خلية “داعش” في نابلس ليس مجرد حدث أمني عابر، بل جرس إنذار يدق في لحظة حساسة، تتطلب من الجميع كالسلطة والفصائل والمجتمع المدني، الانتباه لخطورة ما قد ينمو في الظل، والتوافق على استراتيجية وطنية تمنع تحول المجتمع الفلسطيني إلى ساحة صراع بين مشاريع متطرفة، داخلية كانت أو خارجية، خاصة لأن فلسطين لا تحتمل داعشًا أخرى، ولا تحتمل أن تُحرق من الداخل بينما تُحاصر من الخارج.