
في قلب المحافظات الوسطى والجنوبية، حيث البيوت متعبة كأهلها، يسير صحفي وحيد… يحمل قلمه المكسور كأنّه صليبُه الشخصي، وحقيبته البالية كأنّها نعشه الصغير. يبحث عن مأوى، عن سقفٍ لا يسقط فوق رأسه، عن جدارٍ لا يطرده، عن بابٍ يُفتح له بصدق.
لكنه لا يجد سوى الطرقات التي تعرف خطواته، والأرصفة التي تحفظ وجعه.
الليل في غزة قاسٍ.
إن لم يفتته القصف، تترصده العصابات. وإن لم يقتله الرعب، يقتله الجوع والبرد. ينام على حافة الرصيف، متوسدًا حجرًا باردًا، متدثرًا بالظلمة وحدها. وكلما أغلق عينيه، يسمع صفير الموت من بعيد… ويشعر بأن الرصاصة تبحث عنه كما يبحث هو عن مأوى.
مأساته أنه لم يطلب سوى الحياة بكرامة. لم يرفع سوى الكاميرا، لم يكتب إلا بالحقيقة، لم يتسلح إلا بالكلمة. لكن تهمته الوحيدة… أنه صحفي.
تهمة تكفي لأن يغدو مطاردًا في وطنه، غريبًا بين أهله، مرمّطًا بين الأبواب التي تُفتح بخوف وتُغلق بصمت.
الناس يعرفونه، يشفقون عليه، يواسونه بكلماتٍ دافئة، لكنهم يخافون أن يقتربوا منه أكثر. يطالبونه أن يوصل أصواتهم إلى العالم، أن يكتب عن وجعهم، أن يكون صرختهم العالية. لكنهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه كأنه وباء. أي تناقضٍ هذا؟
كيف تطلبون من رجلٍ مشرّد أن يحمل حكايتكم؟ كيف تنتظرون من قلمٍ جائع أن يكتب باسمكم؟
ذلك الصحفي ليس مجرد شخصٍ عابر، إنه مرآة واقعٍ مأساوي. واقع يقول إن الكلمة قد تصبح عبئًا، وإن الصوت قد يتحول إلى لعنة، وإن الصحفي قد يجد نفسه بلا سقفٍ ولا مأوى، ينام بين ركام الليل بينما يحرس قلمه بيدٍ مرتجفة.
إنه مشهد يبكي الحجر: رجلٌ هارب من موتٍ محتم، يتشبث بالحياة بين الرصاص والخوف، ولا يجد مكانًا يحتويه. وطنه يريده شاهدًا على الحقيقة… لكنه لا يمنحه حتى سريرًا متواضعًا أو غرفة صغيرة تحميه من البرد.
أي ظلمٍ هذا؟
أي ليلٍ أثقل من أن يُترك الصحفي مشردًا، وهو من كتب للعالم عن صمود مدينته، ومن نقل للعالم مآسي أهله؟
هذه ليست قصة فرد… بل قصة وطنٍ يخذل شهداء الكلمة. وطنٍ يجعل الصحفي يجوع في النهار، ويبيت في العراء في الليل، بينما العالم يصم أذنيه عن صرخته.
ويبقى السؤال معلّقًا كقنبلة في الهواء:
من سيكتب عن الصحفي إن مات؟
ومن سيحمل صوته إن خفت؟







