أقلام

القدس.. أسئلة الحرب وتحول الوعي

في الأيام الأخيرة، اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي في القدس الشرقية بنقاشات حادّة أعادت فتح ملفات الحرب والمواقف السياسية، ومستقبل المنطقة، وقد جاء رد قادة حماس على المبادرة الأمريكية الخاصة بمستقبل قطاع غزة ليفجر موجة واسعة من التعليقات، بين مؤيد يرى في موقف الحركة حفاظًا على الثوابت، ورافض يعتبر أن الخطاب الصادر من الدوحة لا يعكس المعاناة اليومية التي يعيشها الناس تحت الحصار أو تحت وطأة الحرب.

هذا التباين لم يكن مجرد جدل سياسي، بل نافذة كشفت عمق الفجوة بين القيادة والشارع، وبين الخطاب الحماسي والواقع القاسي.

ويبدو أن هذا النقاش الواسع أعاد إلى الواجهة شعورًا متكرّرًا لدى سكان القدس الشرقية وهو الإحساس بالانفصال عن مراكز القرار، سواء في غزة أو في العاصمة، فالكثيرون يؤكدون أن الحرب لم تغير شيئًا في وضعهم المعيشي بل زادت من الضغوط عليهم، وأثقلت يومياتهم بسلسلة من التحديات الاقتصادية والإنسانية، وبينما يتابع الشارع بيانات حماس وردودها السياسية، يطرح قسم كبير من السكان سؤالًا مباشرًا: ما الجدوى؟ وهل كان لأي من جولات القتال الأخيرة أثر حقيقي في تحسين حياة الفلسطينيين على الأرض؟

ومع تصاعد التفاعل، بدا واضحًا أن النقاش تجاوز السجال السياسي ليمس الجانب الاجتماعي والمعيشي خصوصا لدى فئات الشباب والتجار والموظفين، فهؤلاء يطالبون اليوم بخطاب واقعي يلامس احتياجاتهم، بعيدًا عن الشعارات أو الوعود الفضفاضة.

ويرى كثير منهم أن أولوياتهم تتمثل في القدرة على العمل، واستقرار الحركة التجارية والحصول على فرص اقتصادية تقلّل من حالة التآكل المالي التي يعيشها معظم الأسر منذ سنوات، ومع تراجع الدخل وارتفاع الأسعار، صارت الحرب بالنسبة لهم عبئًا مضاعفًا لا يحمل أي مؤشر على الانفراج.

ويعيد هذا الحراك الإلكتروني إلى الأذهان طبيعة البيئة المعقدة في القدس الشرقية، حيث تتداخل السياسة بالحياة اليومية بشكل دائم، فالسكان الذين يقفون عند مفترق حساس يجمع بين الهوية الوطنية والضغوط الاقتصادية والانكشاف الأمني، يشعرون بأنهم داخل معادلة غير متوازنة، فينظر بعضهم إلى مواقف حماس من زاوية وطنية، بينما يراها آخرون سببًا إضافيًا لتأخير أي أفق للحل أو الاستقرار. وفي هذه المعادلة، تظل أصوات الفئات المتضررة من البطالة والركود التجاري الأكثر حضورًا واتساعًا.

كما أن النقاشات الأخيرة كشفت عن فجوة نفسية آخذة بالاتساع بين سكان القدس الشرقية وقيادة حماس، إذ يرى كثيرون أن الحركة بعيدة عن نبض الناس، وأن قيادتها التي تعيش خارج فلسطين لا تدرك ثقل التفاصيل اليومية التي يتحملها المواطنون، ويشدد البعض على أن معاناة الغزيين خلال الحرب الأخيرة كانت رسالة كافية تدفع نحو مراجعة واسعة لأي سياسات لا تضع المدنيين في مقدمة الأولويات، وهذا التوجه لا ينطلق من مواقف سياسية فقط بل من تراكمات إنسانية واجتماعية صعبة.

ورغم حدة النقاش، تعكس هذه المشاهد الرقمية مستوى أعلى من الجرأة في التعبير، ورغبة صادقة في فتح ملفات لم تكن تطرح سابقًا بهذه الصراحة، وهذا التحوّل يشير إلى وعي متنام لدى السكان بضرورة نقاش مستقبلهم بآلية جديدة لا تعتمد على الخطابات التقليدية أو التوصيفات السياسية المتكررة، فهناك إدراك واضح بأن أي تغيير حقيقي يجب أن ينطلق من فهم احتياجات الشارع، ومن الاعتراف بأن سنوات الحرب لم تُنتج سوى مزيد من الأزمات والتآكل في القدرة المعيشية للأسر.

في الوقت ذاته، هناك أصوات تدعو إلى التريّث وعدم الانجراف نحو جلد الذات أو التخلي عن الثوابت الوطنية. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن مواقف حماس تأتي ضمن سياق سياسي معقد، وأن الحكم عليها يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ضغوط الميدان والملفات الإقليمية، إضافة إلى حقيقة أن القطاع يعيش منذ سنوات تحت حصار خانق وتحديات أمنية قاسية، ومع ذلك، يقر هؤلاء بأن الحركة مطالبة بمراجعة سياساتها الإعلامية والتواصلية، والتقرب أكثر من وجع الناس بدل الاكتفاء بخطابات خارجية لا تُغيّر من الصورة شيئًا.

وتشير تعليقات أخرى إلى أن النقاش الواسع حول غزة وحماس كشف عن شعور مزدوج لدى سكان القدس الشرقية وهو تعاطف إنساني كبير مع المدنيين في القطاع، وفي الوقت نفسه رغبة بأن تكون أي قيادة فلسطينية قريبة أكثر من واقعهم اليومي، فالكثيرون يعبرون عن تأثرهم بما يواجهه سكان غزة من فقدان ودمار ونقص في الخدمات، ولكنهم يشعرون بأنهم أيضا يعيشون ظروفا صعبة لم ينظر إليها أحد بما يكفي من الجدية، وهذا الإحساس يولّد مساحة جديدة من الأسئلة حول دور القيادات الفلسطينية مجتمعة في تقديم حلول وليس فقط إدارة أزمات.

ومع كل تعقيدات المشهد، ربما يكون النقاش الأخير ليس حدثًا عابرًا بل تطور يعكس نضجًا في الوعي الشعبي، فالسكان وبعد سنوات طويلة من الانتظار والوعود باتوا أكثر ميلاً لطرح أسئلة عملية: كيف يمكن تحسين الدخل؟ متى ستتحسن الخدمات؟ هل هناك خطط اقتصادية واقعية؟ وكيف يمكن تقليل أثر الحرب على الحياة اليومية؟ هذه الأسئلة أصبحت محور النقاش، وليس فقط الاتهامات السياسية أو المواقف الحزبية.

من ناحية أخرى، يبدو أن التأثير الاقتصادي للحرب كان الشرارة الأبرز التي دفعت كثيرين للتعبير بصراحة عن مخاوفهم، فالأسواق تضررت والسياحة تراجعت والعديد من الأسر تعيش بين قروض متراكمة ومصاريف يومية لا يمكن تأجيلها، وهذا الواقع دفع الكثير من الشباب إلى التساؤل عما إذا كان استمرار الصراع دون أفق سيزيد من تدهور أوضاعهم، ومع أن الوعي السياسي حاضر بقوة، فإن هواجس المستقبل المعيشي باتت هي العنوان الأوسع في كل نقاش.

ولا يغيب عن هذا المشهد أن المقدسيين يعيشون ضمن بيئة سياسية حساسة ومعقّدة، حيث تؤثر القرارات الأمنية والاقتصادية على تفاصيل حياتهم اليومية، من الحركة بين الأحياء إلى القدرة على العمل، ولذلك فإن أي نقاش حول غزة أو حماس ينعكس بشكل مباشر على رؤيتهم لمستقبلهم، إذ يشعر كثيرون أن غياب رؤية فلسطينية موحدة يتركهم في حالة انتظار دائم، ويمنع أي استقرار اقتصادي أو اجتماعي يمكن البناء عليه.

ومع تواصل الجدل عبر المنصات، يبقى السؤال الأكبر حاضرًا: هل تكشف هذه النقاشات عن بداية تحول حقيقي في وعي سكان القدس الشرقية؟ وهل يمكن لهذا الوعي الجديد أن يترجم إلى مطالب سياسية واقتصادية أكثر تنظيمًا؟ لا أحد يملك الإجابة الآن، لكن ما يبدو واضحًا هو أن الأكاذيب القديمة لم تعد مقنعة، وأن الناس يريدون خطابًا صريحًا يضع حاجاتهم في المقدمة دون التفاف أو تبرير.

وبين أسئلة الحرب وأسئلة الحياة، يبقى الأمل صامتًا لكنه ملحوظًا، ويتمثل في رغبة السكان بأن تكون الأيام المقبلة أقل قسوة وأكثر واقعية، وأن يحمل المستقبل مقاربة جديدة تُخفّف من أثقالهم، وتعيد لهم الإحساس بأن أصواتهم مسموعة وأن مطالبهم ليست مؤجلة إلى أجل غير مسمى.

مسك محمد

زر الذهاب إلى الأعلى