أقلام

هل ينجح شتاء البلدة القديمة في إنعاش التجارة والسياحة في القدس ؟

مع حلول فصل الشتاء، يعيش تجار البلدة القديمة في القدس حالة من التفاؤل الحذر، بعد عامين من الركود العميق الذي أثقل كاهلهم اقتصادياً ونفسياً، فالمشهد الذي بدا لوهلة وكأنه تجمد تحت وطأة الانخفاض الكبير في أعداد الزوار، بدأ شيئًا فشيئًا يستعيد حركته المعتادة، وسط توقعات خجولة بعودة النشاط السياحي إلى مستواه الطبيعي.

هذا التحول المنتظر يضع أصحاب المحال التجارية أمام سؤال كبير: هل يكون الشتاء القادم بداية انتعاش فعلي أم مجرد فترة انتقالية قصيرة قبل موجة أخرى من التحديات؟

تبدو الشوارع الحجرية التي لطالما ضجت بخطوات السائحين أكثر هدوءًا مما اعتاده السكان، إلا أن الوجوه تحمل في طياتها إشارات أمل، فالتجار الذين نجوا من موجة الإغلاقات القاسية، ينظرون اليوم إلى المشهد بعيون مترقبة، منتظرين أي مؤشرات تثبت أن دورة الحياة الاقتصادية تعود تدريجياً إلى سابق عهدها، وبرغم تباطؤ الحركة حتى الآن إلا أن مجرد رؤية مجموعات صغيرة من الزوار تعود إلى الأزقة الضيقة يمنح شعورًا بأن الأزمة، مهما طالت، ليست أبدية.

ومع كل خطوة تعود للبلدة القديمة، تتبدد شيئاً من غيوم العامين الماضيين، فقد عاش أصحاب المتاجر صراعًا يوميًا بين الحفاظ على محالهم وبين موجة المصاريف الثابتة التي لم ترحمهم رغم غياب الزبائن، فهناك كثيرون أغلقوا أبوابهم مضطرين، فيما قاوم آخرون حتى اللحظة الأخيرة، متمسكين بأمل أن تعود الحركة التجارية قبل أن تخمد جذوة الصمود، واليوم، مع بدايات التعافي تبدو تلك الجذوة وكأنها تشتعل من جديد، ولو على استحياء.

ووفقا لتجار محليون، فإن مؤشرات الانتعاش لا تزال جزئية ومتذبذبة لكنها كافية لإعادة الثقة، ولو تدريجياً، فالبلدة القديمة تعتمد بشكل كبير على السياحة، وأي تحسن في قطاع الزوار يعني تلقائيًا تحسين مستوى الدخل وفتح الباب أمام دورة اقتصادية أكثر استقرارًا، ومع ذلك فإن الخوف من التراجع مرة أخرى لا يزال مسيطراً، مما يجعل التفاؤل مشوبًا بالحذر، ومربوطًا بمدى استمرار هذا الارتفاع المحدود في الحركة.

في زوايا الأسواق التاريخية، تتجلى مفارقة واضحة من حيث بضائع مزخرفة تنتظر مشترين غائبين منذ وقت طويل، وتجار يتنقلون بين محالهم وكأنهم يبحثون عن دلائل إضافية على أن الطريق نحو التعافي قد بدأ بالفعل، ومع انخفاض درجات الحرارة، يتوقع كثيرون أن تعود المدينة إلى مكانتها الشتوية المحببة، إذ غالبًا ما يشهد هذا الموسم زيادة في أعداد الزوار الباحثين عن تجربة روحانية وثقافية في شوارع القدس العتيقة، لكن التجار يدركون أن مجرد الرهان على فصل واحد لا يكفي، وأن التعافي الحقيقي يحتاج إلى استقرار أوسع.

ويحذر بعض التجار من أن بقاء الأمور على حالها دون تدخلات داعمة قد يطيح بأي مكاسب محتملة خلال الأشهر المقبلة، فهم بحاجة إلى دعم حكومي أو بلدي يعزز قدرتهم على الصمود، ويعيد إنعاش المرافق السياحية بشكل منظم، فالمشهد الحالي رغم تحسنه يظل هشاً ويمكن لأي اضطراب سياسي أو اقتصادي أن يعيده إلى المربع الأول، ومع ذلك يختار كثيرون التركيز على الجانب المشرق معتبرين أن العودة التدريجية تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح مهما كانت محدودة.

ومع مرور الأيام، تزداد حركة المارة ولو بشكل طفيف، وتبدأ أصوات الباعة في الارتفاع من جديد، بعد فترة طويلة طغى فيها الصمت على الأزقة، ويعكس هذا التحول رغبة جماعية في استعادة نبض الحياة الذي يميز البلدة القديمة، حيث يمتزج التاريخ بالتجارة والروح الدينية بالنشاط الاقتصادي، ويشعر التجار أن مجرد عودة الزوار الذين توقفوا لالتقاط الصور أو شراء القطع التذكارية يضخ روحًا جديدة في المكان ويعيد له هويته الحية.

وتشير معطيات ميدانية إلى أن بعض المتاجر التي أغلقت أبوابها لوقت طويل بدأت تفكر في إعادة فتحها مع تحسن الحركة، وهذه الخطوات وإن كانت محدودة، فإنها تعكس ثقة متزايدة في أن السوق يتحرك ببطء نحو التعافي، ويقول أصحاب هذه المحال إن إعادة التشغيل تحتاج إلى رأس مال وتخطيط وتجهيزات جديدة لكنها استثمار يستحق المحاولة إذا استمرت المؤشرات الحالية في الصعود ولو بشكل تدريجي.

ويبدو أن انتعاش البلدة القديمة لا يمكن فصله عن التطورات السياحية في المدينة ككل. فعودة الرحلات الدولية وتحسن المناخ الأمني وتراجع التوترات السياسية، كلها عوامل تُحدث تأثيرًا مباشرًا على النشاط التجاري، ومع اقتراب الشتاء الذي يجذب عادة الزائرين من مختلف أنحاء العالم، يأمل الخبراء أن يشهد القطاع السياحي دفعة قوية تُعيد التوازن للسوق المحلي، وتمنع موجة انهيارات جديدة في قطاع التجزئة.

وتعكس الحالة النفسية للتجار حجم المعاناة التي عاشوها في العامين الماضيين، حيث لم تكن الأزمة اقتصادية فحسب بل إنسانية أيضًا، فالإغلاق وفقدان الدخل اليومي وانعدام اليقين بشأن المستقبل جعل كثيرين يعيشون تحت ضغط مستمر، مما أثر على حياتهم الأسرية والاجتماعية، ومع ذلك فإن عودة الأمل ولو تدريجياً، أشعلت في نفوسهم رغبة قوية لمواصلة العمل وإحياء تجارتهم مهما كانت العقبات.

كما أن البلدة القديمة أثبتت تاريخيًا قدرتها على النهوض بعد فترات الأزمات وأن الروح المتجذرة في مجتمعها التجاري تشكل عنصر قوة رئيسيًا في مواجهة الظروف الحالية، فالتجار اعتادوا عبر عقود طويلة التعامل مع أزمات متنوعة من التوترات السياسية إلى الركود الاقتصادي، ونجحوا في كل مرة في إعادة بناء نشاطهم بفضل خبرتهم وصلابتهم وشبكاتهم المحلية.

ومع مطلع الشتاء، يبقى السؤال المطروح أمام الجميع: هل يكون هذا الفصل بداية مرحلة تعافٍ فعلي تُعيد للبلدة القديمة ألقها؟ أم أن الطريق لا يزال طويلاً ويحتاج إلى استقرار سياسي واقتصادي أعمق؟

وبالرغم من عدم وضوح الإجابات، يبقى الأمل سيد الموقف، وتبقى عيون التجار معلّقة على الأفق بحثاً عن إشارات تؤكد أن الأيام المقبلة ستكون حقًا أكثر إشراقًا، وأن البلدة القديمة ستستعيد موقعها كأحد أهم مراكز الجذب السياحي والتجاري في القدس والمنطقة.

أمينة خليفة

زر الذهاب إلى الأعلى