أقلام

الضفة الغربية بين مطرقة الاحتلال وظلال حماس: هل تنفجر الهدنة؟ – كتبت أمينة خليفة

في الوقت الذي كان يُنتظر فيه أن تسود أجواء التهدئة بعد الاتفاق الأخير في غزة، أعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي التوتر إلى المشهد مجدداً، عبر حملة ميدانية غير معلنة استهدفت كل مظاهر التأييد لحركة حماس في مدن الضفة الغربية.

خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية، أزال جنود الاحتلال عشرات اللافتات والأعلام الخضراء التي رُفعت في عدد من المناطق، ما أعطى انطباعاً بأن الاحتلال لا ينوي السماح للحركة بأي مساحة رمزية تُظهر حضورها الشعبي أو قوتها التنظيمية.

وجاءت هذه الخطوة بعد أيام فقط من الحديث عن تفاهمات أمنية مؤقتة، وهذا بمثابة مؤشراً على أن تل أبيب لا تنوي ترجمة الاتفاق على الأرض، بل تسعى لفرض رؤيتها الخاصة لمعادلة “التهدئة من دون تمكين”، وهذا يعني أنها ترفض أي مظهر قد يُفهم على أنه تعزيز لمكانة حماس داخل الضفة.

وبحسب مصادر في الشرطة الفلسطينية، فإن جيش الاحتلال أبلغ الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضمنياً بأنه سيواصل “مراقبة دقيقة” لأي نشاط تنظيمي أو شعبي للحركة، بما في ذلك مراقبة الأسرى الذين من المقرر إطلاق سراحهم في إطار الاتفاق، وسط مخاوف من أن يتحول ذلك إلى ذريعة لإعادة اعتقالهم خلال فترة قصيرة، وهذه السياسة ليست جديدة، لكنها تأتي اليوم في ظرف حساس، إذ تسعى حماس لإثبات أنها لا تزال لاعباً مؤثراً في الضفة رغم الضربات الأمنية التي تلقتها خلال العامين الماضيين، بينما يصر الاحتلال على منعها من استثمار أي إنجاز ميداني أو تفاهم سياسي في رفع شعبيتها.

ومثلا في المدن الكبرى كنابلس وجنين وطولكرم، شوهدت قوات الاحتلال تزيل الرايات الخضراء من الميادين العامة وتقتحم بعض المحال التي علقت صوراً للأسرى المحررين، وهناك بعض العمليات رافقها اعتداءات لفظية وبدنية على شبان حاولوا الاعتراض، ما أثار حالة من الغضب في الأحياء الشعبية.

وتُظهر هذه التحركات الميدانية أن الاحتلال يربط بين “الرمز” و”التهديد”، فهو يعتبر رفع علم أو ملصق لحماس بداية تمرد يجب قمعه فوراً، في إطار سياسة أوسع تهدف إلى تجفيف الحاضنة الشعبية للحركة داخل الضفة، حتى لو كانت مظاهر الدعم محدودة أو رمزية.

وبالرغم من أنه لم تعد حماس في وضع يسمح لها بكسب ودّ الشارع في الضفة كما كان يحدث بعد هجمات السابع من أكتوبر؛ فالتعب والإحراق الجماعي الذي خيّم على الحياة اليومية، وتزايد الخسائر والدمار والمخاوف من امتداد الحرب إلى الضفة، جعل الكثيرين من السكان يعيدون تقييم موقفهم من الخيارات العسكرية والرمزية التي قد تجلب مزيداً من العنف والانتقام. نتائج استطلاعات رأي متكررة أظهرت تراجعاً في قبول قرار الهجوم وفي التفاؤل بقدرة الحركة على حماية المدنيين أو تحسين واقعهم، وهو مؤشر أن الانعاش الشعبي الذي شهدته مرحلة مبكّرة تلاها تآكل تدريجي مع اتساع الكلفة الإنسانية والاقتصادية.

لكن ربما يكون ما يجري قد عكس خشية إسرائيل من عودة النفوذ الحمساوي في الشارع، خاصة مع تصاعد الانتقادات لسلطة رام الله وضعف قدرتها على ضبط الأوضاع، فكل استعراض رمزي للحركة يُفسر في تل أبيب كخطر محتمل على الاستقرار الأمني والسياسي في الضفة.

لكن في المقابل، قد يحمل أي تحرك ميداني أو رمزي لحماس في هذا التوقيت خطراً مزدوجاً على الشارع الفلسطيني نفسه، لأن الاحتلال يستخدم مثل هذه الذرائع لتبرير اقتحاماته المتكررة وعملياته العقابية. ومن شأن أي محاولة لإعادة التموضع أو الظهور التنظيمي في الضفة أن تفتح الباب أمام تصعيد جديد يكون المدنيون أول من يدفع ثمنه.

من ناحية أخرى، يستخدم الاحتلال هذا الملف كورقة ضغط على الوسطاء، ليؤكد أن أي تهدئة أو صفقة تبادل مستقبلية لن تمر دون رقابة إسرائيلية صارمة، خصوصاً على تحركات الأسرى المحررين، الذين تراهم الأجهزة الأمنية “قنابل موقوتة” يمكن أن تعيد تنشيط البنية التنظيمية لحماس في الضفة.

لكن على الأرض، يبدو أن هذه السياسات تُنتج نتائج عكسية، إذ تؤدي إلى زيادة حالة الغضب الشعبي والشعور بالقهر، خصوصاً بين الشباب الذين يرون أن الاحتلال يرفض حتى الرموز الوطنية البسيطة، ما يغذي مشاعر التحدي والرغبة في المواجهة بدلاً من الانضباط الأمني الذي يسعى لفرضه.

وهناك نشطاء فلسطينيون عبروا عن استغرابهم من ازدواجية الموقف الإسرائيلي، فبينما تتحدث الحكومة عن “تهدئة”، تمارس قواتها الميدانية سياسة تضييق غير مسبوقة، تشمل الملاحقة والاعتقال والمصادرة، وكأنها تسعى لإلغاء أي وجود سياسي أو اجتماعي للحركة من المشهد تماماً.

أما على المستوى الرسمي الفلسطيني، فيبدو أن الموقف يتسم بالحذر، إذ تلتزم السلطة الصمت العلني في معظم الأحيان، تجنباً لتصعيد جديد قد ينسف ما تبقى من التنسيق الأمني أو يفتح الباب أمام مواجهات أوسع في مدن الضفة، خصوصاً أن أي انفجار في الشارع سيكون من الصعب السيطرة عليه.

ما سبق يفسر أن الحكومة اليمينية الإسرائيلية الحالية تستخدم هذه الإجراءات كجزء من سياستها الداخلية، لتؤكد لجمهورها أنها لا تتهاون مع حماس ولا تسمح بعودة نفوذها في الضفة، خاصة في ظل ضغوط اليمين المتطرف الذي يدعو إلى تشديد القبضة الأمنية واستمرار “عمليات الردع” حتى في فترات الهدوء النسبي.

وفي ظل هذا الواقع، تتزايد التساؤلات: هل يمكن لأي اتفاق أن يصمد إذا كان الاحتلال يصر على محو الرموز قبل المضمون؟ وهل يمكن للضفة أن تبقى هادئة بينما تُمحى منها أبسط تعبيرات الانتماء والمقاومة؟ أسئلة مفتوحة تترك الإجابة عليها لمشهد لا يزال يتأرجح بين التهدئة الشكلية والانفجار القادم.

الأكيد أن الحكمة تقتضي اليوم تفادي أي خطوة غير محسوبة قد تمنح الاحتلال مبرراً لتصعيد جديد، لأن أي انفجار في الضفة سيحرق بناره الأبرياء قبل السياسيين. لتوسيع هذه الفكرة بشكل عملي وتحليلي نحتاج أن نوضح المخاطر المباشرة وغير المباشرة، ومن ثم نعرض خطوات احترازية واقتراحات عملية لتقليل احتمالات الانزلاق إلى مواجهة شاملة:

أولاً، منظومة الأثر: أي عملٍ عسكري أو تنظيمي ذي طابع علني — حتى لو كان رمزياً أو احتجاجياً — قد يُترجم سريعاً في الغلاف الأمني الإسرائيلي إلى “تهديد” يستوجب ردّاً فورياً. الرد لا يفرق عادة بين عناصر تنظيمية ومدنيين؛ هناك دائماً احتمال للخطأ، وعمليات الاقتحام والاعتقال الجماعي والاشتباكات في الأحياء السكنية تنتج عنها إصابات واعتقالات وتهجير مؤقت. بالتالي، تكلفة أي تحرك غير محسوب هي تكلفة إنسانية فورية.

أمينة خليفة

زر الذهاب إلى الأعلى