أقلام

كفر عقب… نزيف لا يتوقف

كفر عقب.. هل تُعيد المأساة الأخيرة فتح جرح الأمن المفقود في القدس؟

في نهاية الأسبوع الماضي، غرقت كفر عقب في القدس الشرقية في موجة جديدة من الحزن والصدمة، بعدما قُتل شابان يبلغان من العمر 18 و16 عامًا خلال مداهمة لقوات الاحتلال للحي، في حادثة وصفتها العائلات المحلية بأنها “فاجعة لا يمكن احتمالها”.

وقع الحدث في لحظات خاطفة، لكن أثره ظل عالقًا في أذهان الأهالي، الذين ما زالوا يحاولون استيعاب الطريقة المفاجئة التي انتهت بها حياة شابين كانا في بداية مشوارهما، وبمجرد انتشار الخبر، عم شعور ثقيل بأن المأساة لم تقتصر على الأسرة وحدها، بل امتدت لتشمل مجتمعًا كاملًا يعاني منذ سنوات من غياب الأمن والاستقرار.

لم يتوقع سكان كفر عقب أن ينتهي أسبوعهم بهذه الطريقة، فالمداهمات المتكررة باتت جزءًا من واقع يومي، إلا أن وقوع ضحايا بين الأطفال والمراهقين فتح الباب أمام مخاوف مضاعفة، ويصف أحد الأهالي المشهد بأنه “لحظة تجمّد فيها الزمن”، حيث سادت حالة من الذهول قبل أن تتحول الصدمة إلى غضب وحزن عميقين، خصوصًا أن الشابين لم يكونا طرفًا في أي مواجهات، بل تواجدا مصادفة عند دخول القوات، وتحولت المنطقة التي شهدت الحادثة إلى نقطة تجمعات حزينة، اجتمعت فيها أصوات الرثاء والدعوات لوقف هذا النزيف المستمر في الحي.

ومع الساعات الأولى لانتشار الخبر، سارعت لجنة أولياء الأمور المحلية إلى إصدار نداء عاجل لأهالي الحي، طالبة منهم مراقبة تحركات أبنائهم بشكل أكبر، خاصة خلال فترات التوتر، وقالت اللجنة في بيان مؤثر إن “هذه الحادثة كان من الممكن تفاديها لو توافرت ظروف أكثر أمانًا للأطفال”، في إشارة واضحة إلى حالة انعدام الأمن التي يعيشها السكان منذ سنوات. وقد أعاد البيان إشعال النقاش حول المسؤولية المجتمعية ودور الأهالي في حماية أبنائهم، في بيئة يصعب فيها التنبؤ بما قد يحدث في أي لحظة.

وتحول البيان إلى مرآة عكست حجم القلق المتراكم لدى السكان، فالمداهمات الليلية والأحداث المفاجئة باتت تشكل كابوسًا يوميًا للعائلات، خاصة تلك التي لديها أبناء مراهقون يقضون وقتًا خارج المنازل، وهذا القلق لم يعد مرتبطًا بالخشية فقط من العنف المباشر، بل أيضًا من تداعيات نفسية بدأت تظهر بين الأطفال والشباب الذين يعيشون تحت ضغط الترقب الدائم. وبحسب روايات الأهالي، فإن الخوف أصبح جزءًا من الروتين اليومي، الأمر الذي جعل الكثيرين يعيدون حساباتهم بشأن السماح لأبنائهم بالخروج حتى في الأوقات التي تبدو هادئة.

وبينما يتساءل الأهالي عن كيفية منع تكرار هذه المآسي، يبرز سؤال أكبر يتعلق بغياب الحد الأدنى من الإحساس بالأمان، فالحادثة الأخيرة ليست الأولى من نوعها في كفر عقب، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المواجهات العنيفة التي تدفع ثمنها العائلات العادية، ويرى وجهاء الحي أن الحل لا يقتصر على التحذيرات وحدها، بل يحتاج إلى معالجة جذرية لواقع المنطقة، التي تقع إداريًا خارج الجدار وتعاني من فجوة خدمية وأمنية تجعلها أكثر عرضة للفوضى والاضطراب.

ومع تزايد الضغط النفسي على الأهالي، بدأ بعضهم يتحدث عن ضرورة تنظيم جهود محلية للحد من المخاطر التي يتعرض لها الأطفال، ويشمل ذلك مبادرات أهلية لمراقبة الشوارع خلال فترات التوتر، وتنسيقًا بين العائلات لإبقاء الأبناء في أماكن آمنة، لكن هذه المبادرات، رغم أهميتها، تبقى محدودة أمام واقع أكبر من قدرة المجتمع المحلي على تغييره، في ظل غياب إجراءات رسمية توفر الحماية الفعلية للسكان.

وبجانب الألم الجماعي، تركت المأساة أثرًا نفسيًا حادًا على أسر الشابين، اللتين أعلنتا أنهما “فقدتا أغلى ما تملكان بلا ذنب”، فمشاهد الجنازتين التي بدت وكأنها لوحة من الأسى العميق زادت من حجم التعاطف الشعبي، وأعادت طرح أسئلة عن ثمن العيش في منطقة يختلط فيها اليومي بالاستثنائي، والمألوف بالمفاجئ، وكانت كلمات الأهالي خلال التشييع مؤثرة للغاية، تعكس مزيجًا من الحزن والغضب والدعاء بأن لا يواجه أحد آخر المصير نفسه.

وتزامن الحداد مع حالة من النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عبر سكان القدس الشرقية عن تضامن واسع مع أسرتي الضحيتين، وفي المقابل طرح الكثيرون تساؤلات حول استمرار تعرض المراهقين لمخاطر المداهمات، واعتبر البعض أن ما حدث هو نتيجة مباشرة لغياب بيئة آمنة للأطفال، في حين دعا آخرون إلى ضرورة رفع مستوى الوعي بين الشباب حول كيفية التصرف في حالات مشابهة، رغم اتفاق الجميع على أن المسؤولية الحقيقية تتجاوز قدرات الأفراد.

ولا يخفى أن هذه الحادثة ألقت بظلالها الثقيلة على الحياة اليومية في كفر عقب، حيث بدت الشوارع خلال الأيام التالية أكثر توترًا وهدوءًا من المعتاد. المتاجر فتحت أبوابها لكن الحركة كانت بطيئة، وكأن الجميع يعيش تحت أثر صدمة لم تنتهِ بعد. وتحدث أصحاب المحال عن انخفاض واضح في النشاط التجاري، نتيجة الحزن الذي خيّم على المنطقة والقلق الذي جعل الكثيرين يفضلون البقاء في منازلهم.

وبين كل هذه التفاصيل، يبرز الخوف الأكبر لدى الأهالي: هل يمكن أن تتكرر الحادثة؟ وهل سيبقى أبناؤهم عرضة للخطر في كل مرة تقتحم فيها القوات الحي؟ هذا السؤال يتردد على لسان الجميع دون وجود إجابة واضحة، ما يجعل الشعور بالقلق أكثر قسوة. ويقول أحد الآباء: “لا نطلب الكثير، فقط أن يعود أبناؤنا إلى منازلهم بسلام كل يوم”.

ومع مرور الأيام، بدأت أصوات تطالب بفتح تحقيق شامل في ملابسات الحادثة، في محاولة لتحديد المسؤوليات ومنع تكرار مثل هذه الوقائع، ورغم أن مثل هذه المطالب غالبًا ما تمر دون استجابة واضحة، فإنها تعكس محاولة من المجتمع لفرض شكل من أشكال المساءلة، حتى وإن كانت رمزية، ويؤكد وجهاء الحي أن معرفة الحقيقة، مهما كانت النتائج، خطوة ضرورية نحو طيّ الصفحة بطريقة تضمن احترام حياة السكان وحقوقهم.

وفي النهاية، تركت حادثة مقتل الشابين في كفر عقب جرحًا عميقًا في الوعي الجماعي لسكان القدس الشرقية. هي ليست مجرد واقعة عابرة، بل تعبير عن واقع هشّ يعيش فيه الأطفال والشباب بين الخوف والتوتر، وتظل دعوة لجنة أولياء الأمور رسالة واضحة وصارخة: “احموا أبناءكم… فالمأساة قد تتكرر في أي لحظة”، ومع ذلك، يبقى الأمل بأن تكون هذه الحادثة نقطة تحوّل تدفع نحو البحث عن حلول فعلية، تضمن مستقبلًا أكثر أمانًا لأطفال المنطقة.

أمينة خليفة

زر الذهاب إلى الأعلى